فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (61):

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أي هو المتصرِّفُ في أمورهم لا غيرُه يفعل بهم ما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً إلى غير ذلك {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} خاصة أيها المكلفون {حَفَظَةً} من الملائكة وهم الكرام الكاتبون و{عليكم} متعلقٌ بيُرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمُه على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخر، وقيل: متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من {حفظة} إذ لو تأخر لكان صفةً أي كائنين عليكم، وقيل: متعلق بحفظةً والمحفوظُ محذوفٌ على كل حال أي يرسل عليكم ملائكةً يحفظون أعمالَكم كائنةً ما كانت، وفي ذلك حكمةٌ جميلةٌ ونعمةٌ جليلة لما أن المكلفَ إذا عَلم أن أعماله تُحفظ عليه وتُعرض على رؤوس الأشهادِ كان ذلك أزجرَ له عن تعاطي المعاصي والقبائحِ وأن العبد إذا وثِقَ بلُطف سيّدِه واعتمد على عفوه وسَترِه لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله و{حتى} في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تَجعلُ ما بعدها من الجملة الشرطية غايةً لما قبلها كأنه قيل: ويُرسلُ عليكم حفظة يحفَظون أعمالَكم مدةَ حياتكم حتى إذا انتهت مدةُ أحدِكم كائناً مَنْ كان وجاءه أسبابُ الموت ومباديه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الآخرون المفوَّضُ إليهم ذلك، وهم ملكُ الموتِ وأعوانُه وانتهى هناك حِفظُ الحفظة، وقرئ {توفاه} ماضياً أو مضارعاً بطرح إحدى التاءين {وَهُمْ} أي الرسل {لاَ يُفَرّطُونَ} أي بالتواني والتأخير، وقرئ مخففاً من الإفراط أي لا يجاوزون ما حُدّ لهم بزيادة أو نقصان، والجملة حال من {رسلنا} وقيل: مستأنَفةٌ سيقت لبيان اعتنائِهم بما أُمروا به.

.تفسير الآيات (62- 64):

{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}
وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ} عطفٌ على توفته، والضمير للكلِّ المدلول عليه بأحدكم، وهو السرُّ في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً، والإفرادُ أولاً والجمعُ آخِراً لوقوع التوفِّي على الانفراد والردِّ على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر {إِلَى الله} أي إلى حكمه وجزائه في موقف الحساب {مولاهم} أي مالكُهم الذي يلي أمورَهم على الإطلاق لا ناصرُهم كما في قوله تعالى: {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} {الحق} الذي لا يقضي إلا بالعدل، وقرئ بالنصب على المدح {أَلاَ لَهُ الحكم} يومئذ صورةً ومعنى لا لأحد غيرِه بوجه من الوجوه {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} يحاسب جميعَ الخلائق في أسرعِ زمانٍ وأقصره لا يشغَله حسابٌ ولا شأنٌ عن شأنٍ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحاسب الكلَّ في مقدار حلْبِ شاة».
{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر} أي قل تقريراً لهم بانحطاط شركائِهم عن رتبةِ الإلهية مَنْ ينجِّيكم من شدائدهما الهائلةِ التي تُبطل الحواسَّ وتَدْحَض العقولَ، ولذلك استُعير لها الظلماتُ المبطلةُ لحاسةِ البصَر، يقال لليوم الشديد: يومٌ مظلم ويومٌ ذو كواكبَ أو من الخسف في البر والغرقِ في البحر، وقرئ {ينْجيكم} من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى: {تَدْعُونَهُ} نصبٌ على الحالية من مفعول {ينجِّيكم} والضميرُ {لمن} أي مَن ينجّيكم منها حال كونكم داعين له، أو من فاعله أي مَنْ ينجِّيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم وقوله تعالى: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إما حالٌ من فاعل تدعونه أو مصدرٌ مؤكِّد له، أي تدعونه متضرعين جِهاراً ومُسِرِّين أو تدعونه دعاءَ إعلانٍ وإخفاء، وقرئ {خِفية} بكسر الخاء وقوله تعالى: {لَّئِنْ أنجانا} حال من الفاعل أيضاً على تقدير القول أي تدعونه قائلين: لئن أنجيتنا {مِنْ هذه} الشدة والورطة التي عبر عنها بالظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمةِ أو جميع النعماءِ التي من جملتها هذه، وقرئ {لئن أنجانا} مراعاة لقوله تعالى: {تَدْعُونَهُ} {قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} أُمر صلى الله عليه وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعيِّنٌ عندهم، ولبناءِ قولِه تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} عليه، أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورةِ وغيرِها من الغموم والكُرَبِ ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعمَ الجليلةَ تشركون بعبادته تعالى غيرَه، وقرئ {يُنْجيكم} بالتخفيف.

.تفسير الآيات (65- 66):

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)}
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه تعالى هو القادرُ على إلقائهم في المهالك إثرَ بيانِ أنه هو المُنْجي لهم منها، وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذاب لإشراكهم المذكورِ على طريقة قولِه عز وجل: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} إلى قوله تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} الآية، و{عليكم} متعلقٌ {بيبعثَ} وتقديمُه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعةِ إلى بيان كون المبعوثِ مما يضرُّهم، ولتهويل أمْرِ المؤخرِ. وقوله تعالى: {مّن فَوْقِكُمْ} متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةً لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قوم لوطٍ وأصحابِ الفيل وأضرابِهم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَ، وقيل: {مِنْ فوقكم} أكابِرُكم ورؤسائِكم و{من تحت أرجلِكم} سفلتُكم وعبيدُكم، وكلمة أو لمنع الخُلوّ دون الجمع، فلا منْعَ لما كان من الجهتين معاً، كما فُعل بقوم نوحٍ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطَكم فِرَقاً متحزّبين على أهواءَ شتّى، كلُّ فرقةٍ مشايعةٌ لإمامٍ فينشَبُ بينكم القتالُ فتختلطوا في الملاحم كقول الحَماسي:
وكتيبةٍ لبَّستُها بكتيبة ** حتى إذا التَبَسَتْ نفضْتُ لها يدي

{وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} عطفٌ على {يبعثَ} وقرئ بنون العظمة على طريقة الالتفات لتهويل الأمرِ والمبالغةِ في التحذير، والبعضُ الأولُ الكفارُ والآخَرُ المؤمنون ففيه وعدٌ ووعيد. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال عند قوله تعالى: {عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ}: أعوذُ بوجهك. وعند قوله تعالى: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: أعوذ بوجهك. وعند قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: هذا أهونُ أو هذا أيسرُ». وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت ربي أن لا يبعثَ على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلِهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعلَ بأسهم بينهم فمنعني ذلك» {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} من حال إلى حال {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} كي يفقَهوا ويقِفوا على جلية الأمرِ فيرجِعوا عماهم عليه من المكابرة والعِناد.
{وَكَذَّبَ بِهِ} أي بالعذاب الموعود أو القرآنِ المجيد الناطقِ بمجيئه، {قَوْمِكَ} أي المعاندون منهم، ولعل إيرادَهم بهذا العنوان للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم، فإن تكذيبَهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية عَتُوِّهم ومكابرتهم، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مراراً من إظهار الاهتمام بالمقدَّمِ والتشويق إلى المؤخر، وقوله تعالى: {وَهُوَ الحق} حال من الضمير المجرورِ أي كذبوا به والحال أنه الواقعُ لا محالة، أو أنه الكتابُ الصادقُ في كل ما نطقَ به، وقيل: هو استئنافٌ، وأياً ما كان ففيه دلالةٌ على عِظَم جنايتِهم ونهاية قُبْحِها {قُلْ} لهم منبِّهاً على ما يؤول إليه أمرُهم وعلى أنك قد أديتَ ما عليك من وظائف الرسالة {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظٍ وُكِّلَ إليَّ أمرُكم لأمنَعَكم من التكذيب وأُجبِرَكم على التصديق، إنما أنا منذرٌ وقد خرجتُ عن العُهدة حيث أخبرتُكم بما سترَونه.

.تفسير الآيات (67- 69):

{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}
{لّكُلّ نَبَإٍ} أي لكل شيءٍ يُنبَأُ به من الأنباء التي من جملتها عذابُكم أو لكلِّ خبرٍ من الأخبار التي من جملتها خبرُ مجيئِه {مُّسْتَقِرٌّ} أي وقتُ استقرارٍ ووقوعٍ البتةَ، أو وقتُ استقرارٍ بوقوعِ مدلولِه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي حالَ نَبئِكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ}
{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا} أي بالتكذيب والاستهزاءِ بها والطعنِ فيها كما هو دأْبُ قريشٍ ودَيدَنُهم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} بترك مُجالستهم والقيامِ عنهم وقولُه تعالى: {حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غايةٌ للإعراض أي استمِرَّ على الإعراضِ إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيرِ آياتنا، والتذكيرُ باعتبار كونها حديثاً فإن وصفَ الحديثِ بمغايرتها مشيرٌ إلى اعتبارها بعُنوان الحديثية وقيل: باعتبار كونِها قرآناً.
{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} بأن يشغَلَك فتنسى النهْيَ فتُجالِسَهم ابتداءً أو بقاءً، وقرئ {يُنَسِّينَّك} من التَنْسِية {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} أي بعد تذكُّرِ النهي {مَعَ القوم الظالمين} أي معهم فوضَعَ المُظهرَ موضِعَ المُضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوضِ ظالمون، واضعون للتكذيب والاستهزاءِ موضِعَ التصديق والتعظيم راسخون في ذلك {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المسلمين حين نُهوا عن مجالستهم عند خوضِهم في الآيات قالوا: لئن كنا نقول كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطِعْ أن نجلِسَ في المسجد الحرام ونطوفَ بالبيت فنزلت. أي ما على الذين يتقون قبائحَ أعمالِ الخائضين وأحوالَهم {مِنْ حِسَابِهِم} أي مما يُحاسَبون عليه من الجرائر {مِن شَىْء} أي شيءٌ ما على أنه في محل الرفع على أنه مبتدأ، وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية و{من} مزيدة للاستغراق و{من حسابهم} حال منه و{على الذين يتقون} في محل الرفع على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يُجيز إعمالَها في الخبر المقدَّم مطلقاً، أو في محل النصب على رأي من يجوِّز إعمالَها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرف جر.
{ولكن ذكرى} استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكِّروهم ويمنعوهم عما هم عليه من القبائح بما أمكن من العِظة والتذكير ويُظهروا لهم الكراهَةَ والنكيرَ، ومحل {ذكرى} إما النصبُ على أنه مصدرٌ مؤكِّد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكّروهم تذكيراً أو الرفع على أنه مبتدأ محذوفُ الخبر، أي ولكن عليهم ذكرى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الخوضَ حياءً أو كراهةً لمسَاءتهم، وقد جُوِّز كونُ الضمير للموصول أي يذكّروهم رجاءَ أن يثبُتوا على تقواهم أو يزدادوها.

.تفسير الآية رقم (70):

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
{وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الذي كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه {لَعِباً وَلَهْواً} حيث سخِروا به واستهزأوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكادُ يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك، والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل: هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} الآية، {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً {وَذَكّرْ بِهِ} أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى: {أَن تَضِلُّواْ} الآية، أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} وتُرتَهنَ لسوء عملِها، وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ، ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ، والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنوعٌ وقد جوِّز أن يكون الضميرُ المجرورُ في {به} راجعاً إلى الإبسال مع عدم جريان ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له، لما في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التقرير كما في قوله:
على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتمِ

بجرّ حاتم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل: في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير {كسبت} وقيل: في محل الرفع على أنه وصفٌ {لنفسٌ} والأظهرُ أنه حالٌ من {نفسٌ} فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} و{من دون الله} متعلقٌ بمحذوف هو حال من {وليٌّ} كما بُيِّن في تفسير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ} الآية، وقيل: هو خبرٌ لليس فيكون {لها} حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البيان {وَإِن تَعْدِلْ} أي إن تَفْدِ تلك النفسُ {كُلَّ عَدْلٍ} أي كلَّ فِداءٍ على أنه مصدرٌ مؤكد {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه {أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال، ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبرُ قوله تعالى: {الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا، وقولُه تعالى: {لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} استئناف آخَرُ مُبينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه، مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا؟ فقيل: لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بنار تشتعل بأبدانهم {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون {لهم شراب} الخ، حالاً من ضمير {أبسلوا} وترتيبُ ما ذُكر من العذابَيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينْطق به قولُه تعالى: {بِمَا كَسَبُواْ} لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير، أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا، وقد جوِّز أن يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها {بنفسٌ} محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب إلخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبيان تَبِعةِ الإبسال.